فصل: من فوائد ابن عطية في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الشاعر:
فيومٌ علينا ويوم لنا ** ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر

أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إِليه غيره.
وفي معنى يأسهم قولان:
أحدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس، والسدي.
والثاني: يئسوا من بطلان الإِسلام، قاله الزجاج.
قال ابن الأنباري: وإِنما يئسوا من إِبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إِليهم، وأمنهم إِلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على إِبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإِنما قاتلوهم بعد ذلك ظنًا منهم أن كفرهم يبقى.
قوله تعالى: {فلا تخشوهم} قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري.
قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} روى البخاري، ومسلم في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إِلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إِنكم تقرؤون آيةً من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: وأي آية هي؟ قال: قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فقال عمر: إِني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة.
وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أحدًا وثمانين يومًا.
فأما قوله: {اليوم} ففيه قولان:
أحدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور.
والثاني: أنه ليس بيوم معيّن، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفًا.
وفي معنى إِكمال الدين خمسة أقوال:
أحدها: أنه إِكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن عباس، والسُدّي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائِع دينكم.
والثاني: أنه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير، وقتادة.
وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذلّ الشّرك ودروسه، لا تكامل الفرائِض والسنن، لأنّها لن تزل تنزل إِلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم نصر دينكم.
والثالث: أنه رفع النسخ عنه.
وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قُبض، روي عن ابن جبير أيضًا.
والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج.
والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها.
وفي إِتمام النعمة ثلاثة أقوال:
أحدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة.
والثاني: الهداية إِلى الإيمان، قاله ابن زيد.
والثالث: الإِظهار على العدو، قاله السدي.
قوله تعالى: {فمن اضطر} أي: دعته الضرورة إِلى أكل ما حرُم عليه.
{في مخمصة} أي: مجاعة، والخمص: الجوع.
قال الشاعر يذم رجلًا:
يَرَى الخمْصَ تعذيبًا وإِن يلق شَبْعَةً ** يَبِتْ قلبُه من قِلَّة الهمِّ مُبْهما

وهذا الكلامُ يرجع إِلى المحرمات المتقدّمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما.
قوله تعالى: {غير متجانف لإِثم} قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، و«الجنف»: الميل.
وقال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإِثم.
وفي معنى «تجانف الإِثم» قولان:
أحدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين.
والثاني: أن يتعرّض لمعصية في مقصده، قاله قتادة.
وقال مجاهد: من بغى وخرج في معصية، حرم عليه أكله.
قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إِنما يصح في سفرالعاصي، ولا يصح حمله على تناول الزِّيادة على سد الرّمق، لأن الاضطرار قد زال.
قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله غير متجانف لإِثم، فإن الله غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إِذْ أحل ذلك للمضطر. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}
وقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من {بهيمة الأنعام} [المائدة: 1] و{الميتة} كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لابد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة، وقرأ جمهور الناس {الميْتة} بسكون الياء، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {الميّتة} بالتشديد في الياء قال الزجاج: هما بمعنى واحد، وقال قوم من أهل اللسان: الميْت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء

قال القاضي أبو محمد: والبيت يحتمل أن يتأول شاهدًا عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة وقوله تعالى: {والدم} معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات {ولحم الخنزير} مقتض لشحمه بإجماع، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلدًا كان أو عظمًا، وقوله تعالى: {وما أهلّ لغير الله به} يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارة وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذ صاح عند الولادة، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر:
يهل بالفرقد ركبانها ** كما يهل الراكب المعتمر

وقوله تعالى: {والمنخنقة} معناه التي تموت خنقًا وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباس {والموقوذة} التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق:
شغارة تغذ الفصيل برجلها ** فطارة لقوادم الأبكار

وقال ابن عباس {الموقوذة} التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها.
قال القاضي أبو محمد: ومن اللفظة قول معاوية، وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته، وقال الضحاك: كانوا يضربون «الأنعام» بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها وقال أبو عبد الله الصنابحي ليس {الموقوذة} إلا في مالك وليس في الصيد وقيذ.
قال القاضي أبو محمد: وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المعراض «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ».
{والمتردية} هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة، {والنطيحة} فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت وتأول قوم {النطيحة} بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقال قوم: لو ذكر الشاة لقيل: والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكرًا يريد أم مؤنثًا، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك: النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم.
قال القاضي أبو محمد: وكل ما مات ضغطًا فهو نطيح، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة».
وقوله: {وما أكل السبع} يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه هذه كلها سباع. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد، وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره.
وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة {وما أكل السبْع} بسكون الباء وهي لغة أهل نجد وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه. وقرأ عبد الله بن مسعود {وأكيلة السبع} وقرأ عبد الله بن عباس {وأكيل السبع}، واختلف العلماء في قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاسثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرق بعين أو يمصع برجل أو يحرك ذنبًا وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول، وقال أيضًا وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة أن قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة.
قال القاضي أبو محمد: فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم» مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى {إلا ماذكيتم} من غير هذه فكلوه، وفي هذا عندي نظر، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات، وقال الطبري: إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله ثعلب قال ابن سيده: والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو حديث، وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قوله الشاعر:
يذكيها الأسل

ومما احتج به المالكيون لقول مالك، إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولًا يغني عنها فمن حجة المخالف أن قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميته الوجع حسب ما كانت هي عليه.